أحلام بحياة جديدة
نزحت " بشرى " ذات الـ 20 ربيعاً من تعز إلى صنعاء برفقة أمها وجداها لأمها ولم تهتم أنه ليس لها قريب فيها أو كيف ستتدبر الأسرة حياتها ، كان تفكيرها محصور طوال على الحياة الجديدة التي ستجدها بصنعاء وتحلم نفسها تتحرك بكل حرية ولا تربطها أي قيود باسطوانة الأوكسجين، فتمسك الأنابيب المحشوة بأنفها وتبتسم.
وصلت " بشرى " التي تبدو من حجم جسمها كطفلة في الثانية عشر من عمرها عصراً إلى طورائ هيئة مستشفى الثورة العام وهي تبتسم لأمها وتخبرها أنها ستعوضها عن تعبها وسهرها طوال السنوات الماضية وتنظر إلى أسطوانة الأوكسجين وكأنها تودعها .
انتظرت طويلاً وصول الطبيب المناوب وكلما رأت شخصا يمر "بالزي الأبيض" تنهض من السرير بسرعة وبخفة غير معهودة ويخبرها أن الطبيبة المناوبة قادمة، لم تتذمر ولم يؤثر على نفسيتها الإهمال وغياب الإحساس بالمسئولية الذي يحصل دائماً بطوارئ المستشفيات الحكومية، فقد انتظرت سنوات ولم يعد انتظار ساعات أخرى يمثل شيء بالنسبة لها.
اخيراً وصلت الطبيبة فنهضت بشرى والإبتسامة تكسو وجهها الذي لا يمت إلى عمرها بصلة، وأقبلت على الطبيبة وكأنها التقت بمخلصها وأحلامها التي التي تنتظرها منذ الطفولة.
"كيف حالك يا دكتورة ؟ كيف العمل معك؟ ربنا يكون بعونك؟ ساعديني يا دكتورة الله يحفظك، أشتي أتخلص من الأوكسجين، تعبت كثير والله " وصارت كطفلة لا تستطيع التوقف عن الكلام .
الحقيقة الصادمة
أخذت الطبيبة ملف بشرى لتقي نظرة على تاريخ المرض وعيني بشرى لا تفارقها وهي تقلب أوراق التقارير وصور ومقاطع الأشعة.
-" لديك مشكلة مزمنة وللأسف لا نستطيع أن نساعدك " نزلت كلمات الطبيبة كالصاعقة على رأسها.
-بصوت مبحوح تخنقه الدموع ردت بشرى. ليش يا دكتورة ؟
-عندك مشكلة من الطفولة وقد تليفت الرئتان ولم تعودا تعملان، وتحتاجي إلى السفر لزراعة رئتين جديدتين ومع هذا فنسبة نجاح العملية أن استطعتي عملها لا تتجاوز 20% فقط.
وبلا مبالاة أو مراعاة طلبت الطبيبة بإصدار تصريح خروج وتركت بشرى تتحطم كتمثال من الرمل.
رمت بشرى بنفسها على الأرض وهي تبكي وتصرخ "أشتي أعيش، ما اشتيش أموت " وتترجى كل من يقترب منها أن يجد لها حلاً ويساعدها.
لماذا تتعامل الطبيبة هكذا معي ؟ لماذا قتلتني وحطمت قلبي وأملي؟ ظلت تصرخ بهذه الأسئلة التي لم تجد لها إجابة من الحاضرين الذين تجمعوا حولها ودموعهم تتساقط بصمت وحزن.
لم تستطع أمها وجدها وجدتها " أبوا أمها " الذين غرقوا معها بالبكاء أن يخففوا وطأة الصدمة عنها .
تقول أمها لـ " بلقيس " لم نخبرها عن مرضها طول السنوات الماضية وحاولنا أن نبعث فيها الأمل على الرغم من حياتنا القاسية، لكن قسوة قلب الطبيبة دمر كل شيء.
ألم وغربة
لم تنته مأساة بشرى ومرافقيها فطلب الخروج من المستشفى كان مشكلة أخرى لقسوة قلب لا يعرف الرحمة.
أين سنذهب في هذا الليل، ليس لنا أقارب بصنعاء نلجأ اليهم ولا نمتلك المال لاستئجار غرفة في فندق، وماذا لو خلص عليها الأوكسجين في الليل ؟ قالت الجدة هذا لـ " بلقيس " والدموع تتساقط من عينيها، فيما ذهب الجد يترجى الطبيبة والممرضات أن يجعلوهم يقضوا هذه الليلة في المستشفى وسيغادرون الصباح إلى اي مكان.
واصلت الجدة حديثها: نحن فقراء وزوج ابنتي سافر من سنين إلى سيئون وافتتح بوفية صغيرة لكنه غير مبالي بأسرته ولا يرسل لهم مصاريف أو حتى يسال عليهم.
حينها وصل الجد يخبرهم أن يجمعوا حاجاتهم لأنهم رفضوا بقائهم ولكنه لم يجيب على السؤال الذي ردده الجميع، إلى أين سنذهب؟
غاصت بشرى ومرافقوها في ليل صنعاء وشوارعها يلملمون دموعهم، لا يرافقهم غير الألم وأشلاء أمل تشظى على أيدي ملائكة الرحمة.